جميعنا على الأرجح نعرف أشخاصًا – سواء على المستوى المهني أو الشخصي- ممّن يُعتبرون مستمعين جيّدين. حيث أنّه ومهما كان الموقف الذي نمرّ به صعبًا ومُزعجًا، نجد أنّ هؤلاء الأشخاص يعرفون تمامًا ما يقولون وكيف يقولونه. إنّهم ينتقون كلماتهم بعناية فائقة تضمن عدم شعورنا بالضيق أو الانزعاج.
وحتى لو لم يقدّموا لنا حلولاً لمشاكلنا، فإنّنا غالبًا ما نشعر بحال أفضل بعد التحدّث مع مثل هؤلاء الأشخاص والاستماع لكلماتهم.
فما هو السرّ يا ترى وراء قدرتهم العجيبة هذه في التخفيف عنّا؟ هل يمتلكون موهبة خارقة مثلاً؟ أمّ أنها سمة فطرية قد وُلدوا بها؟
السرّ في الواقع هو عواطفهم، أو بتحديد أكبر ما يُعرف بالذكاء العاطفي. إنّه تلك القدرة على التعرّف على مشاعرنا ومشاعر الآخرين وفهم أثرها، ثمّ استخدام هذه المعرفة للسيطرة على أفكارنا وتصرّفاتنا.
ونظرًا لأن الأشخاص الأذكياء عاطفيًا يميلون إلى التوافق بشكل أفضل مع الآخرين ويكونون أكثر تعاطفًا ورحمة من غيرهم، فمن المرجح أن يكونوا أكثر نجاحًا مقارنة بنظرائهم. وهذا ما يجعل “الذكاء العاطفي” أمرًا يستحقّ المزيد من الاهتمام والتعمّق.
فما هو الذكاء العاطفي إذن؟ ما هي أهميّته؟ وما الذي يمكنك فعله حتّى تطوّره وتحقق فائدة أكبر منه؟
الذكاء العاطفي أو الـ Emotional Intelligence هو تلك المقدرة على التعرّف على مشاعرك الخاصّة وفهم مغزاها وأثرها على الأشخاص الآخرين من حولك. كما ينطوي الذكاء العاطفي أيضًا على مراقبة الغير وملاحظتهم.
حينما تفهم مشاعر الآخرين سيُصبح في وسعك إدارة مشاعرك على نحو أفضل وبالتالي تحقيق نجاحات أكبر في حياتك.
غالبًا ما يكون الأشخاص ذوو الذكاء العاطفي العالي أكثر نجاحًا من غيرهم. لماذا؟
ذلك لأنهم يعرفون تمامًا كيف يتعاملون مع الآخرين، وبالتالي نجد أنّهم حينما يرسلون بريدًا إلكترونيًا، تتمّ الإجابة عليه على الفور…حينما يحتاجون للمساعدة يحصلون عليها، وحينما تُبنى الفرق والأقسام الوظيفة، يكونون هم من يرغب الجميع في العمل معهم.
إنهم يجعلون الآخرين يشعرون بحال أفضل، وبالتالي تصبح الحياة أسهل بالنسبة لهم من أولئك الذين يغضبون أو ينزعجون بسرعة.
خصائص وعناصر الذكاء العاطفي
في كتاب من تأليف عالم النفس الأمريكي دانييل جولمان، تمّ التطرّق إلى خمسة عناصر أساسية تحدّد الذكاء العاطفي ويتميّز بها، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
1- الوعي بالذات Self-Awareness
الأشخاص الذين يتمتّعون بذكاء عاطفي مرتفع يكونون في العادة أكثر وعيًا بأنفسهم من غيرهم. إنّهم يفهمون مشاعرهم تمام الفهم، ولهذا السبب فهم لا يسمحون لمشاعرهم أن تتحكّم فيهم.
إنهم واثقون جدًا بأنفسهم لأنهم يؤمنون بحدسهم ولا يسمحون لمشاعرهم بالخروج عن السيطرة.
ليس هذا وحسب، فهم صادقون مع أنفسهم أيضًا. إنهم يعرفون نقاط قوّتهم ومواضع ضعفهم، ويعملون بجدّ للتغلّب عليها من أجل تحقيق أداء أفضل.
من الجدير بالذكر أنّ الوعي بالذات يعتبر أهمّ عنصر وخاصّية من خصائص الذكاء العاطفي.
اعرف المزيد عن هذا الأمر من خلال قراءة المقال: ما هو الوعي بالذات وكيف تطوره؟
2- التنظيم الذاتي Self-Regulation
ويُقصد به القدرة على التحكّم في المشاعر والسيطرة عليها. هؤلاء الأشخاص الذين يملكون مهارة التحكّم بالذات لا يسمحون لأنفسهم بالشعور بالغضب الشديد أو الغيرة الشديدة، إنّهم لا يتخذون قرارات متسرّعة ومتهوّرة، بل يفكّرون جيدًا قبل التصرّف في أيّ موقف.
أمّا عن أهمّ الصفات التي ترتبط بأولئك الذين يتمتّعون بحسّ التنظيم الذاتي فتشمل الآتي:
التفكير العميق.
التأقلم السريع مع الظروف والمتغيّرات.
النزاهة.
القدرة والشجاعة على قول “لا”.
3- التحفيز والحماس Motivation
العنصر الثالث من عناصر الذكاء العاطفي هو الحماس، فالأشخاص الأذكياء عاطفيًا عادة ما يكونون متحفّزين ومتحمّسين. ونجدهم يتخلّون في الكثير من الأحيان عن النتائج الفورية طمعًا في النجاح على المدى البعيد.
ليس هذا وحسب، فهم أصحاب إنتاجية عالية ويحبّون التحدّيات كما أنّهم يبدون كفاءة وفعاليّة في كلّ ما يقومون به.
4- التعاطف Empathy
هذه الصفة هي على الأرجح ثاني أهمّ عنصر من عناصر الذكاء العاطفي. ويُقصد بها القدرة على الربط وفهم رغبات، حاجات ووجهات نظر الآخرين من حولك.
يُعرف عن الأشخاص الذين يتمتعون بِسِمة التعاطف أنّهم بارعون في فهم مشاعر الآخرين حتى وإن كانت هذه المشاعر غير واضحة. ولهذا السبب فالمتعاطفون هم الأفضل في إدارة العلاقات والاستماع للآخرين.
يتجنّب هؤلاء الأشخاص إسقاط الصور النمطية وإلقاء الأحكام سريعًا على الآخرين كما أنّهم منفتحون وصادقون للغاية.
5- المهارات الاجتماعية Social Skills
من السهل عادة التحدّث مع الأشخاص الذين يمتلكون مهارات اجتماعية متقدّمة، وهي سمة أخرى من سمات وخصائص الذكاء العاطفي.
غالبًا ما يُنظر إلى هؤلاء الأشخاص الذين يمتلكون مهارات اجتماعية متقدّمة على أنّهم بارعون في العمل ضمن فريق، وبدلاً من التركيز على نجاحهم أولاً فهم يساعدون الآخرين على التطوّر والنجاح.
ليس هذا وحسب، إذ أنّ أصحاب المهارات الاجتماعية المتقدمة بارعون للغاية في بناء العلاقات طويلة الأمد والحفاظ عليها، ولديهم مهارات تواصل متقدّمة أيضًا.
ما هي أهمية الذكاء العاطفي ؟
جميعنا نعلم أنّ الأشخاص الأذكى ليسوا هم بالضرورة الأكثر نجاحًا أو رضًى، فلعلّك قابلت أشخاصًا متفوّقين أكاديميًا لكنّهم غير مؤهلين اجتماعيًا وغير ناجحين في علاقاتهم أو وظائفهم.
الذكاء العلمي أو الـ IQ اختصارًا ليس العامل الوحيد لتحقيق النجاح في الحياة، صحيح أنّه قد يساعدك على الالتحاق بالجامعة ودراسة تخصص صعب للغاية، لكنّه قد لا يضمن لك النجاح في الوظيفة أو في علاقاتك مع زملائك ورؤسائك في العمل لاحقًا، ولن يساعدك على السيطرة على توتّرك وخوفك خلال الامتحانات أو المقابلات الوظيفية.
في الواقع الذكاء العاطفي أو الـ EQ هو الذي سيتكفّل بذلك. بمعنى آخر يعمل كلّ من الذكاء العاطفي والعلمي معًا بشكل متوازن لتحقيق النجاح لك.
1- أهمية الذكاء العاطفي في الدراسة والعمل
يمكن أن يساعدك الذكاء العاطفي العالي في التغلب على التعقيدات الاجتماعية في مكان العمل أو الدراسة، كما يلعب دورًا مهمّا في قيادة الآخرين وتحفيزهم، والتفوق في الحياة المهنية بشكل عام.
في الواقع، حينما يتعلق الأمر بالعثور على موظفين للمناصب الوظيفية المهمّة، فإن العديد من الشركات الآن تصنف الذكاء العاطفي على أنه في غاية الأهميّة ويُماثل القدرات التقنية والعلمية، بل إن الكثير من هذه الشركات تُجري اختبارات لقياس الذكاء العاطفي قبل عملية التوظيف.
2- أهمية الذكاء العاطفي في الصحة الجسدية
إن كنت غير قادر على السيطرة على مشاعرك، فأنت على الأغلب غير قادر على التحكّم في مستويات التوتّر لديك أيضًا. الأمر الذي قد يؤدّي إلى الكثير من المشاكل الصحيّة الخطيرة.
التوتّر الشديد يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم وإضعاف جهاز المناعة وزيادة خطر الإصابة بالنوبات القلبية، كما يسرّع التقدّم في السنّ أيضًا.
لذا فإنّ أولى خطوات التغلّب على هذه المشكلات الصحية تتمثّل في العمل على تطوير وتنمية مهارات الذكاء العاطفي لديك.
3- أهمية الذكاء العاطفي للصحة العقلية
المشاكل الصحية الجسدية ليست النتيجة السلبية الوحيدة للتوتر والفشل في السيطرة على المشاعر، فصحّتك العقلية والنفسية ستعاني أيضًا.
إن فشلت في فهم مشاعرك وإدارتها أو تقبّلها فسوف تواجه صعوبة جمّة في بناء علاقات قويّة، ممّا قد يسبب لك شعورًا متعاظمًا ومتزايدًا بالوحدة والعزلة، الأمر الذي قد يؤدّي بدوره إلى الإصابة بالعديد من الأمراض النفسية والعقلية وعلى رأسها الاكتئاب.
4- أهمية الذكاء العاطفي في بناء العلاقات
من خلال فهم مشاعرك الخاصّة والتمرّن على إدارتها، سيصبح في وسعك التعبير عنها بصورة أفضل، وفهم مشاعر الآخرين أيضًا وهو ما يساعدك على التواصل الفعّال وبناء علاقات أفضل وأقوى مع الآخرين سواءً على الصعيد المهني أو الشخصي أو العاطفي.
ما هي طرق تنمية الذكاء العاطفي؟
القدرة على إدارة الأشخاص والعلاقات هي بلا شكّ عامل مهمّ يحتاجه كلّ قيادي، وكلّ شخص يطمح للنجاح، لذا فإن العمل على تنمية مهارات الذكاء العاطفي وتطويرها يعدّ خطوة مهمّة في درب النجاح.
فيما يلي سبل وطرق تنمية مهارات الذكاء العاطفي المختلفة:
1- استخدم أسلوبا حازما في التواصل
يقطعُ التواصل الحازم شوطًا طويلاً نحو كسب الاحترام دون أن يظهر على أنه عدواني جدًا أو سلبي جدًا.
احرص دومًا على إيصال آرائك واحتياجاتك للآخرين بحزم وبطريقة مباشرة مع الحفاظ على احترامك لهم.
2- استجب لمشاعرك بذكاء ولا تجعلها ردة فعل مباشرة
خلال المواقف التي تتضمّن صراعًا أو اختلافات، نجد أنّ ردود الفعل العاطفية والانفعالية غالبًا ما تكون شائعة. لكن إن كنت ترغب في تطوير مهارات الذكاء العاطفي لديك، عليك البدء بالسيطرة على هذه الانفعالات:
درّب نفسك على البقاء هادئًا في المواقف الصعبة.
تجنّب اتخاذ قرارات متهورة عند الغضب أو الحزن حتى لا تقع في مشاكل أكبر.
فكّر جيدًا في كلماتك قبل أن تتفوّه، ولا تتردّد في أخذ وقت مستقطع بعيدًا عن الآخرين حتى تهدأ أعصابك.
3- طور مهارات الاستماع
يستمع الأشخاص الأذكياء عاطفيًا خلال المحادثات والحوارات بهدف فهم ما يقوله المتحدّث وليس لمجرّد انتظار دورهم في الكلام.
حتى تتمكّن من تنمية مهارات الذكاء العاطفي لديك، ابدأ بتدريب نفسك على مهارات الاستماع الحقيقية، والسعي لفهم ما يقوله الآخرون والانتباه إلى لغة جسدهم، حيث أنّ ذلك سيمنع سوء الفهم ويسمح لك بالاستجابة بشكل صحيح.
4- كن متحفزا
لا تنتظر التشجيع من الآخرين، ولا تعتمد على التحفيز الخارجي لتحقّق أهدافك وطموحاتك. فالذكي عاطفيًا هو من يستطيع تحفيز نفسه بنفسه دون الحاجة لأيّ عوامل خارجية تحقّق له ذلك.
5- حافظ على سلوك إيجابي
لا تقلّل أبدًا من قوّة السلوك الإيجابي. فالمشاعر السلبية معدية، وقد تنتقل إليك بسهولة، لذا عليك أن تكون واعيًا دومًا بما يشعر به الآخرون من حولك، وتضبط مشاعرك ووعيك وفقًا لذلك.
حينما تتعلّم كيفية السيطرة على مشاعرك السلبية، وكيفية رؤية الحياة بطريقة إيجابية، لن يكون من الصعب عليك بعد الآن أن تحظى بيومٍ سعيد.
ستصبح قادرًا على رؤية الجانب الممتلئ من الكأس على الدوام، وعلى إيجاد شيء إيجابي في كلّ أمرٍ سلبي يواجهك.
6- تقبل الانتقاد بروح رياضية
يعتبر تقبّل الانتقاد بروح رياضية جانبًا مهمًّا من جوانب الذكاء العاطفي. بدلاً من أن تشعر بالضيق والإهانة أو الغضب حينما تتلقى انتقادًا من أحدهم، ابدأ بتدريب نفسك على تقبّله بروح رياضية.
حاول بداية فهم مصدر هذا الانتقاد وسببه، وتأثيره على أدائك وأداء من حولك، ثمّ فكّر في طريقة للاستفادة منه في تحسين أدائك أو تغيير سلوكك بشكل إيجابي.
7- تعاطف مع الآخرين
الأذكياء عاطفيًا يتمتّعون بتعاطف كبير مع الغير نظرًا لأنهم يفهمون مشاعرهم جيدًا، لذا فالخطوة الأولى لتستطيع التعاطف مع من حولك تتمثّل في الاستماع إليهم جيدًا وفهم ما يشعرون به.
ليس عليك أن تتظاهر بالتعاطف، أو أن تتصنّع الشعور به فذلك لن يفيد، وإنّما ابذل جهدك ودرّب نفسك لرؤية الأمور من منظور الطرف الآخر.
لازلت حائرًا حول كيفية فعل ذلك؟
8- طور مهاراتك القيادية
حينما تطوّر مهاراتك القيادية فأنت بذلك ترفع معاييرك في التعامل مع نفسك، وتضع معايير لتعامل الآخرين معك.
تتنوّع المهارات القيادية وتتعدّد فهي تنطوي على روح المبادرة، والقدرة على اتخاذ القرارات وحلّ المشكلات.
9- كن اجتماعيا وودودا
غالبًا ما يرتبط الذكاء العاطفي بالودّ والانفتاح وامتلاك المهارات الاجتماعية. لذا وحتى تنميّ مهارات الذكاء العاطفي لديك، احرص على أن تكون ودودًا مع الآخرين وأن تطوّر ذكاءك الاجتماعي ومهاراتك في التواصل الفعّال.
كيف تفعل ذلك؟
ما عليك سوى الاطلاع على المقالات التالية ففيها الجواب على تساؤلاتك:
كيف أتمتع بقدر أكبر من القبول والود؟
كيف أصبح شخصًا منفتحًا؟
ما هي مهارات التواصل وكيف يمكنك تطويرها؟
كما ترى فالذكاء العاطفي ليس هبة من السماء يولد بها الفرد، أو تظهر لديه بالفطرة، وإنّها هو منظومة من العديد من المهارات التي تعمل معًا في تناسق وتناغم فينجُم عنها الشخصية الذكية عاطفيًا.
من خلال اتباع الخطوات السابقة والاطلاع على جميع المقالات المذكورة أعلاه وبقليل من التمرين والتدريب ستجد نفسك قد أصبحت أكثر وعيًا بمشاعرِك ومشاعر الآخرين من حولك، وأكثر قدرة على تسخير هذا الفهم في تحقيق أهدافك وطموحاتك الشخصية والمهنية على حدّ السواء.