تستمر الولايات المتحدة الأميركية، في تعزيز جهودها الرامية إلى خنق صناعة الرقائق الصينية. فبعد أيام قليلة على بداية عام 2024، فتحت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، جبهة جديدة في “حرب الرقائق” التي تخوضها ضد بكين، عنوانها منع الصين من تطوير صناعتها للرقائق القديمة، وذلك استكمالاً لمسار بدأ في نهاية عام 2022 وطال حينها الرقائق فائقة القوة.
وتصاعدت حدة “العداء” بين أميركا والصين، في كل ما يتعلّق بصناعة الرقائق التي تعتبر بمثابة “نفط المستقبل” في أكتوبر 2022، عندما فرضت الولايات المتحدة ضوابط صارمة، منعت بموجبها الشركات الأميركية من تصدير الرقائق “فائقة التطور”، التي تُستخدم في تطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى الشركات الصينية، لتستتبع إدارة الرئيس بايدن هذه الضوابط بقرار جديد أصدرته في شهر أكتوبر 2023، يمنع وصول الرقائق الأميركية الأقل تقدماً أو القديمة نسبياً إلى الصين.
وفي حين كان المراقبون يعتقدون أن الضوابط الأميركية التي تم فرضها في أكتوبر 2023، تستهدف فقط منع وصول الرقائق الأميركية القديمة إلى الصين، تبين أن واشنطن تريد أكثر من ذلك، وهذا ما ظهر مع إعلان شركة ASML الهولندية، في بداية عام 2024 أن حكومة البلاد ألغت جزئياً ترخيصا، كان يتيح لها تصدير آلات الطباعة الحجرية العميقة فوق البنفسجية (DUV)، التي تستخدم لصنع الرقائق الأقل تقدماً، إلى الصين.
ASML ترضخ لقيود واشنطن
وقالت “ASML” في بيان إنها حصلت في المناقشات الأخيرة مع الحكومة الأميركية، على مزيد من التوضيح حول نطاق وتأثير ضوابط التصدير التي تم إصدارها في أكتوبر 2023، والتي تبين أنها تفرض قيوداً على بعض آلات إنتاج الرقائق ذات النوعية المتوسطة.
وتعمل شركة ASML الهولندية، في تطوير وصناعة أنظمة التصوير الضوئي لصناعة أشباه الموصلات، وهذه النظم تمنح ASML وبشكل حصري، القدرة على إنتاج الآلات التي يتم عبرها تصنيع الرقائق، حيث تهيمن ASML على ما نسبته 82.9 بالمئة من المبيعات في هذه الصناعة، تليها شركتا Canon وNikon اليابانيتان، وهذا ما يعني أن معظم الشركات التي تريد تصنيع رقائق في العالم، مجبرة على اللجوء لأنظمة ASML.
والدور المحوري الذي تتمتع به ASML في عالم تصنيع آلات إنتاج الرقائق الإلكترونية، دفع بالحكومة الأميركية ومنذ عام 2021، إلى الضغط على الحكومة الهولندية، والطلب منها التدخل لمنع ASML من بيع الصين جهازا باهظ الثمن وحاسما للغاية في صناعة “الرقائق المتطورة”، ويحمل اسم “آلة الطباعة الحجرية فوق البنفسجية القصوى (EUV)”.
فتيل “حرب الرقائق” يشتعل من جديد
وقد تمكنت واشنطن بالفعل خلال السنوات الماضية، من حرمان الصين من الحصول على هذه الآلة المتطورة، وهو ما اعتبرته الصين حينها بمثابة “إرهاب تكنولوجي” يمارس عليها، لتعود أميركا الآن وتطالب هولندا بمنع الصين من الحصول على آلة الطباعة الحجرية العميقة فوق البنفسجية (DUV)، التي تستخدم لصنع الرقائق الأقل تقدماً، لتشعل من جديد فتيل “حرب الرقائق” بينها وبين بكين.
قلق أميركي من الرقائق الصينية القديمة
وكان تقرير نشرته بلومبرغ في نهاية عام 2023، أشار إلى أن واشنطن تشعر بالقلق المتزايد، من قدرة بكين المتنامية في صناعة “الرقائق القديمة”، التي تعتبر ضرورية لكل شيء بدءاً من الهواتف الذكية وصولاً إلى أنظمة التسلح، حيث يقول مسؤولو وزارة التجارة الأميركية، أن شركات تصنيع الرقائق الصينية، تعمل على تقويض منافسيها بأسعار منخفضة، الأمر الذي يدفع الإدارة الأميركية، لدراسة فرض رسوم على الرقائق القادمة من ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وأشار تقرير بلومبرغ إلى أن وزارة التجارة الأميركية تسعى للحصول على مزيد من المعلومات، من عمالقة التكنولوجيا والسيارات والفضاء والدفاع حول كيفية حصولهم على الرقائق الصينية القديمة والغرض الذي يستخدمونها من أجله.نمو كبير لسوق أشباه الموصلات
وبحسب WSTS وهي منظمة أنشأتها شركات تصنيع الرقائق الكبرى، فإنه من المتوقع أن تنمو سوق أشباه الموصلات في العالم، بنسبة 13.1 بالمئة في 2024 لتصل إلى مستوى قياسي قدره 588.36 مليار دولار، ارتفاعاً من 520.13 مليار دولار في عام 2023.
وتأتي هذه التوقعات المتفائلة في الوقت الذي بدأت فيه الصناعة، تشهد علامات انتعاش في الطلب، مدفوعة بالاستخدام الواسع النطاق للذكاء الاصطناعي التوليدي، وتحسن مبيعات أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، إذ من المتوقع أن تقود رقائق الذاكرة، النمو الإجمالي للسوق في عام 2024، لتقفز فواتيرها بنسبة 44.8 بالمئة مقارنة بعام 2023.
القضاء على احتمالات تقدم الصين
وتسيطر تايوان لوحدها على أكثر من 60 بالمئة من الإنتاج العالمي للرقائق، فيما تفوق حصة كوريا نسبة الـ 15 بالمئة، لتحل أميركا في المرتبة الثالثة، بحصة 10 في المئة، ومن ثم الصين بحصة تقارب الـ 7 في المئة.
ورغم أن صناعة الرقائق الإلكترونية هي تحت السيطرة التامة لحلفاء أميركا، أي تايوان وكوريا الجنوبية، فإن واشنطن تريد القضاء على أي احتمال، يسمح للصين بالتقدم في هذه الصناعة، فبعد سنوات من استهدافها الصين بالرقائق فائقة القوة، انتقلت الآن إلى الرقائق القديمة، وهو ما يطرح تساؤلات حول سبب هذا القرار.
سبب منع الصين من الحصول على الآلة القديمة
ويقول خبير التحول الرقمي ردوي شوشاني، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الخطة التي حبكتها أميركا منذ سنوات، كانت تقضي باتخاذ جميع الإجراءات الكفيلة بمنع الصين من الوصول للتكنولوجيا المتطورة في عالم تصنيع الرقائق الإلكترونية، ما يحرمها من القدرة على تصنيع رقائق فائقة القوة يمكن أن تستخدم في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ولكن الاختراق التكنولوجي الذي حققته شركة هواوي الصينية في صيف 2023، من خلال تصنيعها لشريحة بدقة 7 نانوميتر متطورة جداً، دفع واشنطن للتدقيق في الطريقة التي صُنعت بها الشريحة، ليتبين لها أنها مصنوعة من خلال استخدام آلات ASML الهولندية.
وبحسب شوشاني، فإن واشنطن أدركت أن ASML لم تخالف القوانين، وبالتالي لم تزود الصين بآلة صناعة الرقائق المتطورة، ولكن ما حصل هو أن بكين التي استمرت في شراء آلات تصنيع الرقائق القديمة من ASML، قد تكون توصلت إلى طريقة، مكنتها من تحديث هذه الآلات القديمة بما يجعلها قادرة على إنتاج رقائق متطورة، لافتاً إلى أن “الجبهة الجديدة” التي استحدثتها أميركا في معركة الرقائق ضد الصين، هدفها تدمير قدرات بكين على تحقيق مزيد من الاختراقات في تصنيع معالجات متطورة.
ارتفاع منسوب التوتر والقلق
وشدد شوشاني على أن ما تقوم به أميركا بمثابة “حرب طويلة الأمد”، لا ترتبط فقط بالحد من تقدم الصين، في صناعة رقائق الهواتف، بل تشمل أيضاً موضوع حرمان بكين من تطوير الرقائق، التي تستخدم في الأسلحة وفي الصناعات الفضائية، لافتاً إلى أن ما يحصل يزيد منسوب التوتر التجاري والتقني في الأسواق العالمية، وقد يؤدي إلى ارتفاع أسعار الرقائق الإلكترونية، في حال ردت الصين بخطوات جديدة، مماثلة لتلك التي اتخذتها في 2023 والمرتبطة بحظر تصدير بعض المواد الأولية، التي يحتاجها العالم لتصنيع الرقائق.
ويرى شوشاني أن العالم لا يريد أن يمنح الصين القدرة على التقدم في صناعة أشباه الموصلات، ويريد الحد من نسبة استفادتها من تريليونات الدولارات، التي سيتم إنفاقها في مسار تحول العالم إلى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي، خلال السنوات القليلة المقبلة.
الصين لم تغرق الأسواق
من جهته، يرى مهندس الاتصالات حسن الدسوقي، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن الخطوات الأميركية الجديدة، لا علاقة لها بفكرة إغراق الصين للأسواق بالرقائق الرخيصة، حيث تظهر الأرقام أن بكين قامت منذ بداية 2023 وحتى شهر أكتوبر من العام نفسه، بتصدير ما قيمته 4 مليارات دولار فقط من أجهزة أشباه الموصلات، مقارنة بفاتورة قيمتها 5 مليارات دولار في الفترة المماثلة من 2022، ما يعني تراجعاً بنسبة 20 بالمئة، لافتاً إلى أن هونغ كونغ والهند وهولندا والبرازيل كانت أكثر الوجهات استفادة من الشرائح الصينية، وبالتالي يمكن الاستنتاج أنه من حيث حجم الصادرات ووجهاتها، فإن مصنعي الرقائق الصينيين، لم يغرقوا الأسواق بالشرائح القديمة والرخيصة، ولذلك فإنه لا مبرر للشعور بالقلق من هذا الأمر.
إرهاق صناعة الرقائق الصينية
ولفت الدسوقي إلى أن الولايات المتحدة الأميركية، وضمن خطتها لاسترجاع دورها الريادي في عالم تصنيع الرقائق الإلكترونية، تريد إرهاق صناعة الرقائق الصينية، بوابل من القيود، ما يضمن إبقاء الصناعات الصينية متخلفة عن الصناعات الأميركية بعدة سنوات، وما القرار الجديد سوى محطة حديثة ضمن سلسلة محطات، سيشهدها عام 2024 في سياق هذا التوجه.
لا تبعات على الصين من قرار ASML
وشدد الدسوقي على أن ارتدادات قرار عدم وصول آلات تصنيع الرقائق القديمة إلى السوق الصينية، قد لا تظهر تبعاتها على الصين في أي وقت قريب، فحجم واردات الصين من معدات صناعة أشباه الموصلات من اليابان وهولندا، بلغ مستوى قياسياً فاق الـ 20 مليار دولار خلال 2023، ما يدل على أن الصين كانت تدرك جيداً أن أميركا ستوسع من قيودها في هذا المجال، فعمدت إلى تعزيز ترسانتها من هذه الآلات بما يضمن عدم تأثرها لعدة سنوات مقبلة.
سكاي نيوز